الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي
وتعني بالآن حصحص الحقّ: ذهب الباطل والكذب وانقطع وتين الحق فظهر وبهر {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} فتنتُه عن نفسه، {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي}.فلمّا سمع {ذلك} يوسف، قال: ليعلم ذلك الذي مضى من ردّي رسول الملك في شأن النسوة {لِيَعْلَمَ} العزيز.{أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} في زوجته {بالغيب} في حال غيبتي عنه {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} واتّصل قول يوسف: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} بقول المرأة: {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} من غير تبيين، وفرّق بينهما لمعرفة السامعين معناه، كاتّصال قول الله تعالى: {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] بقول بلقيس: {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} [النمل: 34] وكذلك قول فرعون لأصحابه: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35] وهو متّصل بقول الملأ: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 35].روى أبو عُبيدة عن الفراء أنّه قال هذا من أغمض ما يأتي في الكلام أنّه حكى عن رجل شيئاً ثمّ يقول في شيء آخر من قول رجل آخر لم يجر له ذكر.وحدّثنا الحسين بن محمد بن الجهمين، عبدالله بن يوسف بن أحمد بن علي قال: حدّثنا علي بن الحسين بن مجلز، قال الحسن بن علي البغدادي، خلف بن تيم عن عطاء بن مسلم عن الخفاف عن جعفر بن نوفان عن ميمون بن مهران عن عبدالله بن عمر أنّ علي بن أبي طالب أتى عثمان وهو محصور فأرسل إليه السلام وقال إنّي قد جئتُ لأنصرك فأرسل إليه بالسلام وقال: جزاك الله خيراً، لا حاجة في قتال القوم، فأخذ عليّ عمامته عن رأسه، فنزعها فألقاها في الدار ثمّ ولّى وهو يقول: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين}.قال أهل التفسير: لما قال يوسف هذه المقالة قال له جبرئيل: ولا حين هممت بها؟ فقال عند ذلك يوسف {وَمَآ أُبَرِّئُ نفسي} من الخطأ والزلل فاركبها، {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} بالمعصية {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} يعني إلاّ من رحمه ربي فعصم، و{مَآ} بمعنى مَن كقوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] أي مَن طاب، وقوله إلاّ استثناء منقطع عمّا قبله كقوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ * إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} [يس: 43-44] يعني إلاّ أن يُرحموا، فإنّ إذا كانت في معنى المصدر تضارع ما.{إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، فلمّا تبيّن للملك حق يوسف وعرف أمانته وعلمه، قال: {ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أجعله خالصاً لي دون غيره، فلمّا جاء الرسول يوسف قال له: أجب الملك، الآن، فخرج يوسف ودعا لأهل السجن بدعوة تعرف إلى اليوم وذلك أنّه قال: اللهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار وأنعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في كّل بلدة، فلمّا خرج من السجن كتب على باب السجن: هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وحرقة الأصدقاء وشماتة الأعداء، ثمّ اغتسل يوسف عليه السلام وتنظّف من قذر السجن، ولبس ثياباً جدداً حساناً، وقصد الملك.قال وهب: فلمّا وقف بباب الملك قال عليه السلام: حسبي ربي من دُنياي، وحسبي ربّي من خلقه، عزّ جاره، وجلّ ثناؤه ولا إله غيره.ثمّ دخل الدار، فلمّا دخل على الملك قال: اللهمّ إنّي أسألك عزّك من خيره، وأعوذ بك من شرّه وشرّ غيره، فلمّا نظر إليه الملك سلّم عليه يوسف بالعربية، فقال له: الملك، ما هذا اللسان؟ قال: لسان عمّي اسماعيل، ثمّ دعا له بالعبرانية، فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ قال: لسان آبائي.قال وهب: وكان الملك يتكلّم بسبعين لساناً، فكلّما كلّم يوسف بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان، فأجابه الملك، فأعجب الملك ما رأى منه، وكان يوسف يومئذ ابن الاثين سنة، فلمّا رأى الملك حداثة سنة، قال لمن عنده: إنّ هذا علم تأويل رؤياي ولم يعلمه السحرة والكهنة، ثمّ أجلسه على سريره، وقال له: إنّي أحبّ أن أسمع رؤياي منك شفاهاً، فقال له يوسف: نعم، أيّها الملك، رأيت سبع بقرات سمان هب غرّ حسان، كشف لك عنهنّ النيل وطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهنّ لبناً، فبينا أنت تنظر إليهنّ وتتعجّب من حسنهنّ إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبساً، فخرج من حمأته ووحله سبع بقرات عجاف شُعث غُبر مقلّصات البطون، ليس لهُنّ ضروع ولا أخلاف، ولهنّ أنياب وأضراس وأكفّ كأكف الكلاب خراطيم كخراطيم السباع، فاختلطن بالسمان فافترسنهنّ افتراس السبع، فأكلن لحومهنّ ومزّقنَ جلودهنّ وحطّمن عظامهنّ وتشمشن مخّهنّ.فبينا أنت تنظر وتتعجّب وإذا بسبع سنابل خضر وسبع أُخر سود في منبت واحد عروقهنّ في الثرى والماء، فبينا أنتَ تقول في نفسك: أنّى هذا؟ هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد، وأصولهنّ في الماء إذ هبّت ريح ذرّت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهنّ النار فاحرقتهنّ وصرنَ سوداً متغيّرات.فهذا آخر ما رأيت من الدنيا ثمّ انتبهت من نومك مذعوراً، فقال الملك: والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجباً بأعجب ممّا سمعته منك، فما ترى في رؤياي أيّها الصدّيق؟ فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، وتزرع الزرع الكثير في هذه السنين المخصبة وتبني الأهواء والخزائن، فتجعل الطعام فيها بقصبه وسنبله ليكون قصبه وسنبله علفاً للدواب، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها، وتأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفي الشغل فيه؟ فقال: يوسف {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} مجاز الآية: على خزائنّ أرضك وهي جمع الخزانة فدخلت الألف واللام خلفاً من الإضافة، كقول النابغة: والأحلام غيرُ كواذب.{إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}: كاتب حاسب، قتادة: حفيظ لما وليت، علهم بأمره، ابن اسحاق: حفيظ لما استودعتني، عليمٌ بما وليّتني، شيبة الضبي: حفيظ لما استودعتني وعليمٌ بسنيّ المجاعة، الأعشى: حافظ للحساب عليم بالألسن أعلم لغة من سألني، الكلبي: حفيظ التقدير في هذه السنين الجدبة، عليمٌ بوقت الجوع متى يقع، وقيل: حفيظ لما وصل إليّ عليم بحسابة المال، فقال له الملك: ومَن أحقّ به منك؟ فولاّه ذلك، وَقَالَ لَهُ: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} ذو مكانة ومنزلة، أمين على الخزائن، روى جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل: اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنّه أخّر ذلك سنة فأقام عنده في بيته سنة مع الملك.».روى سفيان عن أبي سنان عن عبدالله بن أبي الهذيل، قال: قال الملك ليوسف: إنّي أُريد أن تخالطني في كلّ شيء غير أنّي آنف أن تأكل معي، فقال يوسف عليه السلام: أنا أحقّ أن آنف، أنا ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، فكان يأكل بعدئذ معه.روى حمزة الريّان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة، قال: لما رأى العزيز رأي يوسف وظرفه دعاه وكان يتغدّى ويتعشى معه دون غلمانه، فلمّا كان بينه وبين المرأة ما كان، قالت له مرّة: فليتغدّ مع الغلمان، فقال: اذهب فتغدّ مع الغلمان فقال له يوسف في وجهه استنكفتَ أن تأكل معي، أنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله إبن إبراهيم خليل الله.روى مقاتل عن يحيى بن أبي كثير أنّ عمر بن الخطاب عرض على أبي هريرة الإمارة فقال: لا أفعل ولا أريدها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من طلب الإمارة لم يعدل» فقال عمر: لقد طلب الإمارة من هو خير منك، يوسف عليه السلام، قال: اجعلني على خزائن الأرض.روى بن اسحاق عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوَّجَهُ ورَدَّأُهُ سيفه، ووضع له سريراً من ذهب، مكلّلا بالدرّ والياقوت، وضرب عليه حلّة من استبرق، وكان طول السرير ثلاثين ذراعاً وعرضه عشرة أذرع، عليه ثلاثون فراشاً وتسعون مرفقة، ثمّ أمره أن يخرج فخرج متوّجاً، لونه كالثلج ووجهه كالقمر، يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه، فانطلق حتى جلس على السرير ودانت له الملوك، ودخل الملك بيته مع نسائه، وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عمّا كان عليه وجعل يوسف مكانه.قال ابن اسحاق: قال ابن زيد: وكان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام، فسلّم سلطانه كلّه إليه، وجعل أمره وقضاءه نافذاً، ثمّ أنّ قطفير هلك في تلك الليالي فزوّج الملك يوسف راحيل إمرأة قطفير، فلمّا دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما كنتِ تريدين؟ فقالت: أيّها الصدّيق لا تلمني فإنّي كنتُ امرأة حسناء ناعمة كما ترى، في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنتَ كما جعلك الله في حُسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين: أفرائيم بن يوسف ومنشا بن يوسف.واستوسق ليوسف ملك مصر وأقام فيهم العدل فأحبّه الرجال والنساء فذلك قوله تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} يعني أرض مصر: أي مكّناه {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا} أين نزل {حَيْثُ يَشَآءُ}: ويصنع فيها ما يشاء، والبواء المنزل يقال: بوّأته فتبوّأ، وقرأ أهل مكّة: حيث نشاء بالنون ردّاً على قوله مكّنا وبعده، {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ} أي بنعمتنا.{وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} قال ابن عباس ووهب: يعني الصابرين كصبره في البئر، وصبره في السجن وصبره في الرق، وصبره عما دعته اليه المرأة، قال مجاهد وغيره: فلم يزل يدعو ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس فهذا في الدنيا {وَلأَجْرُ الآخرة} نعيم الآخرة {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} قال البحتري: وكتب بعضهم إلى صديق له:
وقال آخر: {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} بنيامين {وَنَزْدَادُ} على أحمالنا {كَيْلَ بَعِيرٍ} لنا من أجله {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ}: لا مؤونة فيه ولا مشقّة، وقال مجاهد: كيل بعير يعني: حمل حمار، قال: وهي لغة يُقال للحمار بعير، {قَالَ} لهم يعقوب: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ} تعطوني {مَوْثِقاً مِّنَ الله} يعني تحلفوا لي بحقّ محمّد خاتم النبيين وسيد المُرسلين أن لا تغدروا بأخيكم {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} وإنّما دخلت فيه اللام لأنّ معنى الكلام اليمين {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} إلاّ أن تهلكوا جميعاً، قاله مجاهد، وقال قتادة: إلاّ أن يُغلبوا حتى لا يطيقوا ذلك.{فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أعطوه عهودهم، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس: حلفوا له بحقّ محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته من ربّه {قَالَ} يعقوب {الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي شاهد وحافظ بالوفاء، وقال القتيبي: كفيل، وقال كعب: لمّا قال يعقوب: فالله خيرٌ حافظاً، قال الله جلّ ذكره: وعزّتي لأردّن عليك كليهما بعدما توكّلت عليّ، وقال لهم يعقوب لما أرادوا الخروج هذا، {وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ} مصر {مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} وذلك أنّه خاف عليهم العين لأنّهم كانوا ذوي جمال وهيئة وصور حسان وقامات ممتدّة، وكانوا ولد رجل واحد، وأمرهم أن يفترقوا في دخولها ثمّ، قال: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} علم عليه السلام أنّ المقدور كائن، وأنّ الحذر لا ينفع من القدر، وما أغني عنكم من الله من شيء {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} وإلى الله فليفوّض أمورهم المفوّضون.{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} وكان لمصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها كلّها، {مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} صدّق الله تعالى يعقوب فيما قال: {إِلاَّ حَاجَةً} حزازة وهمّة في نفس يعقوب {قَضَاهَا} أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم {وَإِنَّهُ} يعقوب {لَذُو عِلْمٍ لِّمَا}: أي مما {عَلَّمْنَاهُ} يعني لتعليمنا إيّاه، قاله قتادة، وروى سفيان عن ابن أبي عروة قال: إنّه العامل بما علم، قال سفيان: من لا يعمل لا يكون عالماً، وقيل: إنّه لذو حظّ لِما علّمناه.{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ما يعلم يعقوب، أي لا يعرفون مرتبته في العلم.{وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به، قد جئناك به فقال لهم: أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي، ثمّ أنزلهم فأكرم منزلهم ثمّ أضافهم وأجلس كلّ اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحيداً، فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيّاً لأجلسني معه، فقال لهم يوسف عليه السلام: لقد بقي هذا أخوكم وحيداً، فأجلسه على مائدته فجعل يُؤاكِله.فلمّا كان الليل أمرَ لهم بمثل أي فرش، فقال: لينم كلّ أخوين منكم على مثال، فلمّا بقي بنيامين وحده، قال يوسف عليه السلام: هذا ينام معي على فراشي فبات معه فجعل يوسف يضمّه إليه ويشمّ خدّه حتى أصبح فجعل روبيل يقول: ما رأينا مثل هذا، فلمّا أصبح قال لهم: إنّي أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان فسأضمّه إليّ فيكون منزله معي، ثمّ أنزلهم معه، وأجرى عليهم الطعام والشراب وأنزل أخاه لأمّه معه فذلك، قوله تعالى: {آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} فلمّا خلا به قال له: ما اسمك؟ قال: بنيامين.قال ابن من يا بنيامين؟ قال: ابن المثكل، وذلك أنّه لما ولد هلكت أُمّه، قال: وما اسمها؟ قال: راحيل بنت لاوي بن ناحور، قال: فهل لك بنون؟ قال: نعم، عشر بنين وقد اشتققتُ أسماءهم من اسم أخ لي من أُمّي هلك، قال: لقد اضطرّك إلى ذاك حزن شديد، قال: فما سمّيتهم؟ قال: بالعا وأحيرا وأثكل وأحيا وكنر ونعمان وادر وأرس وحيتم وميثم، قال فما هذه؟ قال: إما بالعاً فإنّ أخي قد ابتلعته الأرض، وأما أخيرا فإنّه بكر أبي لأُمّي، وأمّا أثكل فإنّه كان أخي لأبي وأُمي وسنّي، وأما كثير فإنّه خير حبيب كان، وأمّا نعمان فانه ناعمٌ بين أبويه وأمّا أدّر فإنّه كان بمنزلة الورد في الحُسن، قال: وأما أرس فإنّه كان بمنزلة الرأس من الجسد، وأما حيتم فأعلمني أنّه حيّ، وأمّا ميثم فلو رأيته قرّت عيني.فقال يوسف: أتُحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال بنيامين: ومن يجد أخاً مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه و{قَالَ} له: {إني أَنَاْ أَخُوكَ} يوسف {فَلاَ تَبْتَئِسْ} فلا تحزن {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} لشيء فعلوه بنا فيما مضى؛ فإنّ الله قد أحسن إلينا ولا تُعلمهم شيئاً ممّا علمت.وقال عبدالصمد بن معقل: سمعت وهب بن منبه وسئل عن قول يوسف لأخيه: {إني أَنَاْ أَخُوكَ}، فقيل له كيف آخاه حين أخذ بالصواع وقد كان أخبره أنّه أخوه، وأنتم تزعمون أنّه لم يزل متنكّراً لهم يكابرهم حتى رجعوا؟ فقال: إنّه لم يعترف له بالنسبة ولكنّه قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، ومثله قال الشعبي، قال: لم يقل له: أنا يوسف، ولكن أراد أن يُطيّب نفسه.ومجاز الآية أي: أنا أخوك بدل أخيك المفقود فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلا تشتكِ ولا تحزن لشيء سلف من أخوتك إليك في نفسك وفي أخيك من أُمّك، وما كانوا يفعلون قبل اليوم بك، ثمّ أوفى يوسف لإخوته الكيل وحمل لهم بعيراً، وحمل لبنيامين بعيراً باسمه كما حَمل لهم، ثمّ أمر بسقاية الملك فجعل في رحل بنيامين، قال السدّي: جعل السقاية في رحل أخيه، والأخ لا يشعر.قال كعب: لما قال له: إني أنا أخوك قال بنيامين: فأنا لا أفارقك، قال يوسف عليه السلام: قد علمتُ عنهم والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمه، فلا يمكنني هذا إلاّ أن أُشهرك بأمر وأنسبك إلى ما لا يجمل بك، قال: لا أُبالي فافعل ما بدا لك فإنّي لا أُفارقك.قال: فإنّي أدسُّ صاعي هذا في رحلك ثمّ أُنادي عليك بالسرقة لجهازي ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك، قال: فافعل، فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي لما قضى لهم حاجتهم، {جَعَلَ السقاية}: وهي المشربة التي كان يشرب بها الملك، قال ابن زيد: وكان كأساً من ذهب فيما يذكرون، وقال ابن إسحاق: هو شيء من فضّة، عكرمة: مشربة من فضّة مُرصّعة بالجواهر، جعلها يوسف مكيلا لئلاّ يكال بغيرها وكان يشرب بها، سعيد بن جُبير: هو المقياس الذي يلتقي طرفاه وكان يشرب بها الأعاجم وكان للعباس منها واحدة في الجاهلية، والسقاية والصواع واحد، {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} في متاع بنيامين، ثمّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا ومضوا ثمّ أمر بهم فأُدركوا وحُبسوا.{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى مناد، {أَيَّتُهَا العير} هي القافلة التي فيها الأحمال، قال الفرّاء: لا يُقال عِير إلاّ لأصحاب الإبل، وقال مجاهد كانت العِير حميراً.{إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} قفوا، فوقفوا، فلمّا انتهى إليهم الرسول قال لهم: ألم نكرم ضيافتكم ونُحسن منزلكم ونُوفِكم كيلكم ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قال: سقاية الملك، فقال: إنّه لا يُتَّهم عليها غيركم، فذلك قوله تعالى: {قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ} عطفوا على المؤذّن وأصحابه: ماذا تفقدون؟ ما الذي ضلّ منكم؟ فالفقدان ضدّ الوجود، والمفقد: الطلب.
|